دور التربية النفسية الاجتماعية في التوازن النفسي للطفل
تكثر النظريات حول تربية الأطفال والأولاد، وتتراوح كلها بين القسوة الصارمة أو القسرية، والتراخي أو التسامح المبالغ فيه، وتكثر بالتالي النصائح والإرشادات التي يسديها أصحاب هذه النظريات ومعتنقوها إلى الأهالي الذين همهم الأول هو أن يشبّ أولادهم، وأن يتلقوا أفضل تربية في أفضل ظروف، وبأفضل الطرق الممكنة.
بعض الناس يوزع «الوصفات التربوية» كما توزع وصفات الطبخ والخياطة والتطريز، ويغيب عن أذهان هؤلاء أن تربية الطفل لاتتم بناء على «وصفة تربوية جاهزة تصلح للتطبيق على جميع الأطفال مهما اختلفت مستوياتهم ومجتمعاتهم.
الطفل ضعيف وقوي في آن معاً؛ ضعيف لصغر سنه ولحاجته إلى رعاية أهله ومحبتهم له، ولكنه قوي بما يكمن فيه من طاقة حياة لاحدود لها. والطفل منذ ولادته كائن له شخصيته، وينبغي احترامه باعتباره شخصاً قائماً بذاته، منفصلا عن أهله وعن رغباتهم من حيث تعاملهم معه كمجرد فاه للإشباع، أو جسد للإكساء، أو لعبة للتسلية.
محاذير الصرامة التقليدية والحرية المطلقة في التربية
يغيب عن بال الذين يطبقون هذه النظرية أو تلك أو يروجون لها. أن الطفل ليس غرضاً يمتلك ولاحقل تجربة أو اختبار للنظريات التي يؤمنون بها، فالطفل ليس امتداداً للكبار، إذ إن له حياته المستقلة ولو رافقه الأهل في مساره مدة من الزمن.
وإن كان للكبار حق على الطفل فهو «حق» رعايته وتقديم كل عون من شأنه مساعدته على النمو نمواً سليماً دون استلاب لشخصيته ولقدراته، فالطفل شخص مثلنا ومعاملته معاملة راشدة تقتضي توجيه إمكاناته في مسار نموها السليم.
نظرية إطلاق العنان لحرية الطفل كردة فعل على الصرامة والضغط اللذين كانا يميزان الطريقة التربوية القديمة القائمة على معاملة الطفل بقسوة وإجحاف. فلقد كان الأهل يرون في القسوة طريقة مثلى للتربية وشرطاً أولياً لتمكين الطفل من التحلي بأفضل الصفات، والسير به في طريق العلم والمعرفة، والنجاح باسم قيم ومثل عليا كالجدية والشرف والصدق والواجب والأخلاق العالية، بموجب هذه التربية كان الطفل يعامل بقسوة وكان الأهل لايترددون في استعمال كل وسائل القصاص والتأنيب والتوبيخ والتهديد وحتى الضرب العشوائي.
نظريات تربوية حديثة متضاربة حول رعاية الطفل
جاء العصر الحالي بنظريات مناقضة لهذه الرؤية مستنداً بذلك إلى ماتقدمه العلوم الإنسانية الحديثة ­ ولاسيما علم النفس ­ من وسائل بحث ومعرفة وتجريب.
بدأت المدارس والمؤسسات التربوية المختلفة تحاول، بوساطة النظرية والتطبيق، إيجاد أساليب تربوية مختلفة يكون من شأنها تأمين حاجات الطفل وحمايته، فعلت الأصوات مدافعة عن الطفل، وعرف الغرب أصنافاً من التربويين تنادي بالحرية المطلقة وبتطبيق أساليب تربوية تبتعد عن الصرامة وتنكر على الأهل حتى حق ممارسة النهي والردع والتوبيخ، كما كثرت «الوصفات» ، وأخذ الناس بممارسة التربية طبقاً لوصفة مسبقة تمليها عليهم الكتب والمجلات المتنوعة. وإزاء التزمت الذي كانت تتسم به التربية التقليدية أتت نظريات تقول بعدم التعرض لرغبات الطفل مهما كانت. وأخذ الأهل يطلقون عنان رغبات أبنائهم وصرنا نرى طفلاً صغيراً يتحكم بكل مايخصه ويخص أهله حتى سهراتهم وأصدقائهم، فإن رافقهم في زيارة إنصاع الأهل، وبالتالي المضيفون، إلى رغباته.
بعض الأهل الذين تلقوا تربية قاسية، راحوا يعوضون عن الحرمان الذي عانوا منه في طفولتهم بتقديم كل ماكانوا يحلمون به لأنفسهم إلى أطفالهم، مقنعين بذلك كل مااختزنوه من نقائض ومحققين بوساطة الأطفال رغبات لهم، ماضية أو حاضرة، بينما استمر أهل آخرون بمعاملة أطفالهم كما عوملوا هم في طفولتهم كأن تربية أولادهم مجرد تكرار لتربيتهم فراحوا يمارسون على أطفالهم مامارسه ذووهم عليهم، ويبقى الطفل في الحالتين مرآة تعكس رغبات الأهل وآمالهم وعقدهم ونواقصهم، وألعوبة لهواجسهم وهمومهم واهتماماتهم أي مجرد امتداد لشخصهم بطريقة أو بأخرى.
ولاينتبه المهتمون بالتربية إلى كون هذين التصرفين المبالغ فيهما لايتناقضان فعلاً، فكلاهما ذو أثر مضر على الطفل ولايوفر له الحماية من القلق والخوف بسبب ماقد يلاقيه من حرمان وظلم في اعتماد التربية الصارمة، ومايتعرض له من استلاب لشخصه ولرغباته الفعلية تحت ستار إطلاق حريته في حال اعتماد التربية المتساهلة.
الحرية المطلقة ليست إلا غياباً للأهل، ومنحها للطفل يوهمه بأن الواقع الخارجي رهن إرادته ورغباته، وهي رغبات مضخمة لاحدود لاستمرارها في التضخم سوى مايرسمه الأهل بأوامرهم ونواهيهم.
فالطفل يحتاج إلى روادع تحميه من الحرية اللامتناهية التي تولد لديه إحساساً بالوحدة أمام الخارجي وبضعف والديه وعدم قدرتهما على حمايته من لا محدودية هواجسه الداخلية ومن العوامل الخارجية، فليست كلمة «لا» «لا الناهية» مجرد كلمة سلبية، هي أيضاً حد يرسمه الأهل أمام ماينتاب الطفل من رغبات جارفة وأمام ماقد يلاقيه من أخطار خارجية. وافتقار الطفل إلى تحقيق رغباته، كل رغباته، لايعني أنه سيقاسي من نقص وحرمان سلبيين فالطفل يميز بين مايمنع عنه ظلماً وبين ماينهى عنه لأسباب أخرى لها علاقة وثيقة بسلامته أو بظروف أهله الموضوعية، وللأهل أن يميزوا بين الحاجات والرغبات عند طفلهم فعليهم تأمين الحاجات لأنهم مسؤولون عن تأمين عيشه وعن حمايته، ولهم أن يساعدوه على وعي رغباته وعلى التمييز بينها أي بين مايمكن تحقيقه وما يتعارض مع الواقع.
لقد أظهرت المحللة النفسانية الشهيرة «فرانسوا دولتو» أهمية أن يفهم الطفل حريته كدافع على التقدم وتحقيق الاستقلال الذاتي. وأن على الطفل أن يفهم الآخر بالقدر الذي لاتتنافى فيه حريته مع حرية الآخر، صغاراً كانوا أم كباراً، وأنه كذلك فرد مسؤول له رأيه وعليه أن يحترم رأي الآخرين، له أغراضه وأشياؤه يتصرف بها كما يريد، وللكبار أغراضهم وأشياؤهم التي لاحق له فيها، هذه الحدود التي ترسمها له كلمة راشدة وموجهة، تحميه من فقدان التوازن الفعلي والضروري للتوفيق بين رغباته وبين محدودية الواقع.
فالعطف أو التسامح أو العطاء الذي يتوجه به الأهل إلى أطفالهم حاجة ضرورية وأساسية، ولكن غياب أي ردة فعل رادعة عندهم قد يدفع الطفل إلى الاعتقاد اعتقاداً راسخاً بأن تحقيق رغباته، كل رغباته شيء مبرر بمجرد أن يشعر بها، فيعتاد على تنفيذ رغباته بوساطة الأهل فور تعبيره عنها والأشياء التي يرغب فيها تفقد قيمتها بنظره، فما أن يحصل على لعبة مثلاً حتى يرميها جانباً محاولا الانتقال إلى رغبة جديدة يساوم عليها من خلال ممارسة لعبة أخرى، أليس هذا نوع من الابتزاز العاطفي؟ إضافة إلى الخضوع إلى رغبة الطفل بشكل أعمى وسريع ينطلق من اعتباره أنه غير جدير بالاحترام أي غير قادر على التصرف بشكل مسؤول، والإحساس بالمسؤولية يبدأ منذ الصغر.
ماهو وضع الطفل بالتحديد؟
الطفل حساس تجاه الكلام الذي يوجه إليه وحساس أيضاً إزاء طريقة معاملة الكبار له، فإن خوطب كما يخاطب الشخص الراشد، أي باتزان، رد بالمثل، وإن عومل معاملة الشخص الذي لا يعي شيئا، تحول إلى طفل مغناج دائم يفقد أي رغبة بالقيام بجهد لتخطي رغباته ونزواته.
فاحترام الطفل هو احترام رغبته في اللعب وحاجته إليه وليس القبول برغبته في امتلاك كل الألعاب التي يراها أو التي تقع يده عليها، فإن حاز على كل الألعاب التي يطالب بها خسرت هذه الدمى قيمتها، وتحولت عملية المطالبة بلعبة جديدة إلى لعبة بحد ذاتها... إنها لعبة ابتزازية يتقنها الطفل اتقانا تاما ولكن خطورتها تكمن في كونها تحوله إلى طاغية صغير مستبد وإلى كتلة من الأنانية الجوفاء.
ان يعتاد الطفل على رؤية الكبار يتسارعون إلى تلبية رغباته، تنمو لديه انانية تشكل خطرا على شخصيته ومحيطه الآني والمستقبلي، وهذا يمنعه من تعلم لذة مشاركة الآخرين بالمسؤولية،و كما يحرمه من لذة الاستمتاع ببساطة الأشياء والقدرة على خلق لعبة ترضيه وتغني خياله وتفتق طاقاته الابداعية.
فقد يتفاقم هذا الوضع إلى حد فقدان القدرة على الاحساس برغبة ما.. من هنا تأتي اهمية ان يستحق الولد ما يطالب به، ان الاستحقاق هو بذل الجهد اللازم للتوصل إلى ارضاء الرغبات، فمن لا يتاح له الاحساس بالعطش لا يتعرف على لذة الشرب، ومن لا يبذل جهدا للتوصل إلى قمة الجبل لا يعطي جمال المناظر المحيطة به حق قدرها.
لولا افتقار الطفل إلى حضور امه كلما ابتعدت عنه، لما احتاج إلى نطق كلمة (ماما) يناديها بها، إنه يسترجعها بوساطة هذا الرمز اللغوي الذي يعوض عن خسارته لالتحامه بأمه. وهنا لا بد لنا لا بد من الحديث عن حالة الكآبة والحزن التي يلاحظها علماء النفس والمربون عند الطفل قبيل نطقه بكلماته الأولى، ويفسر الاختصاصيون كـ (إيديت جاكسون) و (ميلاني كلاين) وغيرهما ظاهرة تعلم الكلام كنتيجة لاجتهاد الطفل في تخطيه حالة القلق التي يخلقها غياب امه عنه. اما الأهل فيستشعرون هذه الحقيقة ولو بشكل غير واع ويبرز ذلك من خلال لعبة يمارسونها مع اطفالهم، وذلك منذ الأشهر الأولى بعد ولادته وهي لعبة رائجة في كثير من البلدان شرقية كانت أم غربية وتقوم على مبدأ الاختفاء عن ناظري الولد ولو للحظة ثم الظهور مجددا أمامه.. إن الأولاد كافة يتجهون لهذه اللعبة، فهي تمكنهم من فهم االختفاء والظهور من جديد بشكل العوبة لا تقلقهم، ويكون سرور الطفل لظهور وجه امه او وجه من يلاعبه مساويا لاستغرابه وقلقه من جراء غيابه عنه، فالنقص يولد الرغبة ويولد الفرح الحقيقي في تحقيقها.
ويروي «فرويد»، أبو التحليل النفسي، كيف ان حفيده البالغ من العمر ستة أشهر ونصف، كانت له لعبة مفضلة، وهي عبارة عن بكرة خشبية يتدلى منها طرف خيط، فكان الطفل يرمي البكرة بعيدا عن سريره وهو مازال ممسكا بطرف الخيط صارخا ما معناه «بح» (أي غابت)، ثم يشد الخيط اليه فتظهر البكرة من جديد فيبهج له ويصرخ «هاهي».
كل رغبة لاتُلبى فور مطالبة الطفل بتحقيقها، تصبح حافزا له على الخلق والإبداع ابتداء من اللعب وانتهاء بالابداع الفني والعلمي، دون ان يعني ذلك حرمان الطفل من تحقيق رغباته. فواجبنا هو تأمين احتياجاته كلها وحثه على العمل قدما وبذل المجهود الكافي لتحقيق رغباته بنفسه فيكون له أن يتعرف على رغباته الحقيقية وعلى استحقاق الفوز بها فلا نلصق به رغباتنا ولانحققها من خلاله.
من هذا المنطلق نفهم قول المحللة النفسانية «فرانسوا دولتو»: «يجب ان نميز بين رغبات الاهل ورغبات الطفل من جهة، وبين حاجاته هو من جهة اخرى، فالولد يرفض طعاما تقدمه له أمه يعبر بذلك عن عدم حاجته الى الاكل.
والأم التي ترغم ولدها على الاكل حين لايكون جائعا انما تحاول ارضاء رغباتها هي. وقد يكون رفض الاطفال للأكل في بعض الاحيان نتيجة لإحساسهم برغبة الأم الشديدة الى مناولتهم الطعام، لو كان الاكل حاجة أساسية لديهم.
وحين تساعد الأم ولدها على العيش في ثياب نظيفة ومحيط نظيف فهي تلبي حاجته الصحية الى النظافة. أما حين تمنعه عن اللعب أو عن الإتيان بأية حركة خوفا من اتساخ ثيابه فهي تلبي رغبتها بامتلاك ولد ألعوبة وتنسى انه كائن حي، وان الحركة واللعب بحرية من الحاجات الاساسية لديه».
وتعود «دولتو» الى التمييز بين الرغبة والحاجة لدى الطفل فتقول بضرورة تحقيق حاجات الولد وبضرورة عدم تحقيق رغباته فور تعبيره عنها. «تختلف الرغبات عن الحاجات لكونها تستطيع ان تقال وان تحقق بطريقة رمزية وخيالية، بينما تكون الحاجات ضرورية للاستمرار في العيش وهي متعددة كالنظافة والدفء والاكل والشرب». وهي تنصح الاهل بعدم ارضاء رغبة اولادهم بل حثهم على التعبير والكلام عنها وعلى محاولة تحقيقها بانفسهم وتعطي امثلة كثيرة على ذلك: «انظروا الى ولد يرغب في ألعوبة لايمتلكها، طائرة صغيرة مثلا ترونه يخترع اي شيء. فأي غرض أو أي طرف من غرض موجود أمامه يتحول الى طائرته التي يرغب فيها. أما اذا حققت رغبته بشراء الطائرة فورا فذلك يحول دونه ودون خلق أي شيء، إذ يبدأ بكسر ألعوبته وبالمطالبة بطائرة اخرى لانه لم يعد قادرا على خلقها بنفسه.
فالابداع والخلق اشكال تتخذها الرغبة لتحقيقها وتخطيها لذاتها في آن معا، أي في تطور الرغبة في الرغبة والترميز والابداع والخلق وغيرها».
غير ان «دولتو» لا تقول بعدم تحقيق أية رغبة عند الطفل بل بضرورة الكلام مع الطفل عن هذه الرغبة وذلك بالدخول في تواصل معه حول رغبته وتحويل العالم أمامه الى عالم غني باللغة، عالم من الرموز والكلام والمفردات ومن الوعود باللذة.
فالحديث مع الطفل عن رغبته في الحصول على قطعة حلوى أو على حبة «ملبس» يدعه ينفصل عن الرغبة بشكلها الآني، ويدخله في تواصل ممتع مع من يحيط به حول هذه الرغبة فيحلم بالحصول عليها لاحقا.
أما اذا تحققت فورا فإنها تصبح مجرد حاجة جسدية لإرضاء جهازه الهضمي وتدفعه الى الانعزال شيئا فشيئا عن أهله فيصبحون مجرد وسيط أو وسيلة لتحقيق رغباته..
في نهاية التحليل وكي تستقيم الامور في مواجهة تخبطات الاساليب التربوية المسبقة الصنع لامناص من تجنيد مجموعة من الباحثين والمفكرين وفي مختلف اختصاصات العلوم الانسانية حتى يتأتى التشخيص شاملا للمشكلات والتعقيدات التي يعاني منها اطفالنا وشبابنا اليوم. أقول ذلك لأن هلا أمل مأمون في بناء استراتيجية تربوية نفسية اجتماعية مثمرة تعيد توظيف الطاقات المبعثرة لأجيالنا القادمة بما يخدم نهوض مجتمعنا العربي اذا لم تتم الاستعانة الجادة بالدراسات الفكرية والكشوفات العلمية المنبثقة عن واقعنا ومقتضياته الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية.
بذلك نتمكن من تمهيد البيئة الآمنة للمربين والمرشدين النفسانيين والاجتماعيين للاطلاع بمهامهم وإقرار دورهم كمرشدين حقيقيين رسميين في مراكز الرعاية النفسية والاجتماعية وفي الروضات وفي المدارس والمعاهد والجامعات والجمعيات وغيرها من المؤسسات لتزويد المعلمين والمعلمات والاهالي بالاساليب التربوية الناجعة. هذه الاجراءات هي الكفيلة بتفعيل طاقات الاجيال الحاضرة والمستقبلية وتوجيهها نحو البناء والصحة النفسية الاجتماعية المنتجة.
تحيتي ومودتي ... أيمن ... ؛
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق